سعد الأوسي
بعدما انتزع البعثيون الحكم من الرئيس عبد الرحمن عارف عام 1968 في انقلاب او مؤامرة او ثورة 17 تموز، عملوا طوال عهدي الرئيسين البكر و صدام حسين بدأب على تغيير البنية الثقافية المجتمعية و الارث الاخلاقي والقيمي والنفسي العام عبر (تبعيث) الجهاز الاداري الحكومي اولاً ثم العمل على تبعيث المجتمع كله، ففتحت ابواب الانتماء الى حزب البعث على مصاريعها، بالمغريات و الامتيازات حيناً وبالضغط والترهيب وهزّ العصا احياناً آخرى، لوأد الولاءات و (الايمانات) والمتبنيات الايدلوجية المنافسة والتي كانت تصنف عند البعثيين في نظرية عملهم على انها (عدوّة) وليست ندّاً موضوعياً تقتضيه الحياة السياسية والفسيفساء الفكري والاجتماعي الذي يقتضي التعددية و الاختلاف الموضوعي وصراع الرأي والرأي الآخر.
وكان ابرز الانداد (الاعداء) حسب رؤية البعث الحاكم هم الشيوعيون خصومهم التقليديون، والاحزاب الدينية بشقيها الشيعي والسنّي على حدّ سواء(اخوان مسلمين و دعوة و وهابيين) ، مع وجوب الاشارة الى ان الاحزاب الشيعية تحديداً نالها سهم القمع والاضطهاد الاكبر وربما اكثر حتى من الشيوعيين، فطوردوا واعتقلوا ومنعت شعائرهم واهينت رموزهم واغتيلت ابرز مراجعهم الدينية ، خاصةً في فترة ما بعد انتصار الثورة الايرانية على نظام الشاه -شباط عام 1979- وتأسيس الجمهورية الاسلامية (الشيعية) الايرانية التي اشعرت النظام البعثي وقتها بخطر زحفها الايدلوجي الى العراق وامكانية تحريك الشارع الشيعي للانقلاب على السلطة الحاكمة.
و لابد من الاعتراف ان البعثيين نجحوا الى حد كبير في الهيمنة الفكرية والايدلوجية على عقول اغلبية الشعب خاصة الاجيال الجديدة التي نشأت في ظل حكمهم، بشتى وسائل التثقيف وبادارة حديدية للاعلام الذي كان موجّهاً صارماً للثقافة والفنون بجميع تنوعاتها واشكالها الابداعية. وقد ظل هذا النهج الشمولي في قيادة العقل الجمعي وتشكيل هوية المجتمع الفكرية والنفسية ، فاعلاً و مؤثرا بنجاح طوال اكثر من ثلاثين عاما، ولعل كمّاً كبيرا من رواسبه مايزال حاضراً في وعي و لا وعي الكثير منّا حتى الان، و ربما نجد شيئاً من آثاره (البغيضة) ماثلاً حتى في ثنايا عقول اعدى اعداء النظام السابق ومعارضيه، و اطياف انعكاساته في ملامح سلوكهم بقصد او دون قصد، و قد يكون ابرز مثال على ذلك مانراه من تفشي النزعة السلطوية الدكتاتورية في ادارة الدولة عند العديد من الحاكمين (الجدد) ، و حرصهم البالغ على مظاهر العظمة والجبروت والاقتدار باتخاذ القصور العملاقة و التنقل بمواكب ضخمة فخمة من عشرات السيارات والمئات من عناصر الحماية الشخصية والمرافقين، وارتداء اثمن الازياء والاحذية و اقتناء اندر المجوهرات والساعات و اختيار اجمل الحسناوات والعاهرات باهضات الكلفة كخليلات متعة ولهو . وهي مظاهر ماتزال حاضرة في الذاكرة لشخصيات معروفة مكروهة من الزمن السابق، مع ان اغلب الحاكمين الجدد هؤلاء كانوا الى عهد قريب نسبياً ابناء فقر و عوز وبؤس شديد ، تدبغت جلودهم وذبلت وجوههم من الجوع والمعاناة والغربة القاحلة، خاصة في سنوات معارضتهم للنظام حين تركوا البلد هرباً من الظلم والقهر والمطاردات والاعتقالات والاعدامات. وكان يفترض بتلك السنوات الثقال العجاف ان تكون درسهم البليغ في الزهد والالتزام و امانة اليد والضمير في الحياة الجديدة التي وعدوا بانهم سيملؤونها عدلاً ونزاهةً واصلاحاً وعفّة ذمم !!!!!!.
المحزن المخيب للآمال ان الاخوة (المجاهدين والمعارضين) لم يأخذوا من تجربة البعثيين في الحكم سوى الانحرافات، ربما لانها تتسق مع اهوائهم واطماعهم ورغباتهم، بل زادوا عليها بصمتهم الخاصة في اللصوصية و فساد الذمم و سرقة المال العام وعمولات صفقات الخراب والعبث بهيكل ادارة الدولة ومنح المناصب والرتب العليا للجهلة وعديمي الكفاءة والخبرة بجريمة (الدمج) حيناً وبالتزوير والتلاعب احياناً اخرى، لذلك فشلوا خلال اكثر من عشرين عاما – وهي فترة حكم طويلة- ان يقدموا اي منتج او منجز سياسي او اداري او اقتصادي او ابداعي او علمي او صناعي او تجاري او اجتماعي ، في بلد يوصف و يصنف شعبه انه اذكى شعب عربي وانه يحوي المع العلماء والادباء والفنانين، هذا بشهادة المحتلين الاعداء الامريكان الذين كان هدفهم الاكبر من الاحتلال محو هوية البلد العلمية و كسر مسيرة نهوضه وابداعه وتقزيم شعوره العالي بذاته وقدرته على النهوض من كبواته دائما. وقد بدا ذلك واضحاً منذ اول ايام الاحتلال وهو اول متمثلاً بعمليات الاغتيال الواسعة التي طالت عددا كبيراً من اهم علماء العراق في شتى الاختصاصات واعتقال عدد آخر منهم لترهيبهم وتخويفهم واغرائهم او اجبارهم على الهجرة الى بلدان الغرب البعيدة لمحو هويتهم الوطنية وقتل زخم قدراتهم المجتمعة بالتشتيت والتهميش في اصقاع الدنيا وسط صمت عربي مخزٍ لم يحرك ساكناً لاحتواء هذه الثروة العراقية العربية من العقول والخبرات المبدعة والتي كانت مهيئة لصناعة نهضة حقيقية في اي بلد تحل فيه. وهو مانجح فيه الامريكان والسوفيات وحلفاؤهم الاوربيون بعد انتصارهم على المانيا في الحرب العالمية الثانية، حيث حرصوا على استقطاب واحتواء العلماء الالمان والذين كان لهم فيما ابعد ابلغ الاثر في تطويرات علمية مفصلية كبرى واختراعات متفردة اسهمت في تكريس قدرات الدولتين العظميين وسبقهما للعالم.
لم يفكر ولم يعمل احد من حاكمي العراق الجدد بعد 2003 الى هذه الثروات والخبرات البشرية الوطنية، بل على العكس تآمروا مع الامريكان والاسرائيليين على مطاردتهم واغتيالهم وتهجيرهم، ربما لان الموجة الاولى من الجهلة والاميين الذين عملوا مع الحكم الجديد ككوادر وسطى ساندة، كانوا يرومون التخلص بشدة من اصحاب الكفاءة والخبرة والعلم والشهادات العليا الحقيقية لان وجودهم يفضح جهل الجهلاء وغباءهم واميتهم في كل شئ.
اليوم حين نلتفت الى السنوات الواحدة والعشرين التي مضت ونحاول ان نحصي منجزاتها او نواتجها الحضارية لا نجد شيئاً يذكر او يمكن الوقوف عنده مع الاسف. لم يفلح حاكمونا المتدرعون بالديمقراطية الثائرة على النظام الديكتاتوري السابق في مضاهاة ايٍّ من منجزاته الادارية او التنظيمية او الصناعية او الاقتصادية او العسكرية او الامنية او الاعلامية او الثقافية، مع انه كان مثقلاً بصراعاته الكثيرة وحروبه و بوليسيته و جبروته و فرديته الفكرية و نزقه السياسي واوهام قوته التي اودت به الى اسفل سافلين.
ترى ما الذي ساقني الى كل هذه الانثيالات والتداعيات وربما الاعترافات المؤلمة المحبطة في هذا الوقت بالذات ؟؟
كنت اقلب في احد المواقع و اشاهد فيديوهات عديدة لنشاطات السيد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني التي يبدو انها من صناعة مكتبه الاعلامي او مكاتب و مؤسسات خاصة ممولةٍ من مكتبه السياسي او الاعلامي ترويجا له و لنهجه في قيادة الحكومة وهو حق مشروع الى حدّ ما خاصةً وهو يسعى ويعمل لضمان ولاية رئاسية ثانية كسابقيه. وقد لفت نظري ان الاغنية الحماسية المرافقة لفيديو نشاطات السيد رئيس الوزراء كانت اغنية (منصورة يا بغداد) الراسخة في صميم ذكرياتنا كاحدى ايقونات الاعلام الحربي الذي قاده وزير الاعلام لطيف نصيف جاسم اثناء الحرب العراقية الايرانية 1980-1988.
الغريب ان 39 سنة طوالا مرت على هذه الاغنية و ماتزال حتى الان تبعث في الاجيال التي شهدت والتي لم تشهد تلك الحرب حماسا و عزّة وطنية رغم اننا لانتمنى لتلك الايام القاسية الطاحنة ان تعود ابدا.
((ان باعدتنا احدود ابحب الوطن نلتم
ان فرقتنا احدود وحدتنا وحدة دم
جيناك يا بغداد والله الهوى نسم
فجرك علينا عاد حتى الوطن يسلم
واتظلي ديما فوك منصوره يا بغداد
وانشوفك ابعز دوم منصوره يا بغداد)) والاغنية من تأليف الشاعر زهير الدجيلي والحان الفنان العبقري طالب القرغولي
رحمهما الله.
ترى لماذا عجزنا ان ننتج اغنية كهذه بعد احدى وعشرين سنة من ادارة الدولة وبموارد ضخمة جدا لم تكن مؤسسات البعث الاعلامية السابقة تمتلك عشر معشارها خاصة في زمن التقشف والحرب !!!؟؟؟
ولماذا مانزال نستعير نشيدنا الوطني من النشيد الوطني الفلسطيني موطني الذي كتبه فواز طوقان ولحنه الاخوان فليفل !!؟؟؟
ولماذا ماتزال موسيقى الجيش تعزف في استعراضات المسير العسكرية حتى الآن اشهر نشيد بعثي
((احنا طليعة امة عريقة غالي وطنها شعبها اصيل
احنا الجيل اليمشي طريقه مهما كان طريقه طويل
احنا البعث البعث البعث البعث))
مع وجوب الاشارة هنا الى ان 95٪ من الاغاني الوطنية والحزبية والحربية في زمن البعث كانت لشعراء و ملحنين شيعة.
ترى لماذا لم ينتج هؤلاء مثل هذه الاغاني الخالدة
ولماذا اضمحل النتاج الشعري والادبي والفني والابداعي كله الان مع انه كان في عزّ ازدهاره وذروته في زمن البعث ؟؟؟؟
لا بد من الاعتراف بشجاعة اننا اهملنا رعاية الاداب والفنون وهما من اهم اعمدة البناء الحضاري للشعوب مثلما اهملنا عناصر بناء الدولة الاخرى وانشغلنا بالفساد و صفقاته واللصوصية والتناحر على المناصب والمكاسب.
واننا لم نسع لخلق بيئة ابداعية تتناسب وحجم العراق الثقافي والحضاري والسياسي والاقتصادي.
بل على العكس حاربنا الشعر وطاردنا الشعراء و فسّقنا الفن واهملنا الدراما والتلفزيون والمسرح ودفعنا المبدعين دفعا للهروب من البلد، ولم نضع خطة ستراتيجية للانتاج الابداعي وتطوير مؤسساته، وحين استخدمنا كوادر القيادة الفنية والاعلامية والثقافية لادارة المؤسسات الحكومية ذات الاختصاص، حرصنا على استخدام افشلهم وتركنا لهم الحبال على الغوارب يعيثون ويفسدون ولا ينتجون مع انهم يقودون مؤسسات عملاقة.
لهذه الاسباب اضطررنا ان نستعين ببغداد المنصورة عام 1985 لاننا لم نفلح في ترويج بغداد عام 2024، و تركنا استعراضات جيشنا تضبط ايقاع مسيرها على (احنا البعث) لاننا لم نفكر ابدا في تغيير البنية الفكرية والثقافية التحتية التي حرص البعثيون على بنائها في عقول الاجيال التي عايشتهم اكثر من ثلاثين سنة.
لقد كان الدكتاتور (المغرور) حريصاً على ان يرعى الشعراء والفنانين والمثقفين والكتاب شخصيا ويتابعهم ويكرمهم ويقابلهم بنفسه، فلماذا لم يكن في وقت ولا حسبان قادتنا الديمقراطيين (المتواضعين) متسعا للاهتمام بكل هذا مع انهم يدركون اهميته واثره، ومع ان كثيرا منهم ماتزال في ذاكرته قصائد واغانٍ واسماء عديدة من زمن الدكتاتورية يرددها ويتغنى بها رغم كراهيته لزمنها ورموزها وفحواها ؟؟؟؟